تعديل

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

الحب من منظور نفسي.. سيكولوجيا الاتصال والانفصال

الحب، ما إن نطلق الكلمة حتى يرتجف القلب ويستقيل العقل. وينسحب العلمي والواقعي لمصلحة الخيالي والرومانسي، مما يصعب المعالجة الهادئة لهذه العاطفة الدفاقة التي تسقي جفاف حياتنا رشحا، وتزرع دروبنا وردا، وتشبع جوعنا للتوحد مع الآخر وفيه. و من جهة أخرى لايجوز أن يترك الحب في صحراء الثقافة الإستهلاكية  تنهش من جوهره ومعانيه أحلى ما يميزه عن غيره من المشاعر والأحاسيس الوجودية، إلى درجة جعلت منه مسوقا أساسيا للسلع والمنتجات، ودلال السوق الذي يستدرجنا للشراء أكثر مما يدعونا للعطاء.
ولكن السمة الأساسية لهذا الشعور الجميل هي التمرد، فهو رقيق بقدر ما هو متوحش، وعصي على السجان مهما كان صاحب سطوة، والواقع أنه حير العلم وتجاوز الفلسفة بعدما أنهك الأدب، ولذلك يشعر الباحث الجاد بشيء من المهابة وهو يخوض غمار البحث العقلي في مسألة تأخذ بشغاف القلب وتقاوم الحياد والموضوعية والبرودة العلمية،  ولم أجد حلا لهذه المشكلة إلا المقاربات المتعددة الجوانب التي تحاول الإحاطة بالمحيط، والإبحار مع رغبة دفينة في أن تنكسر السفينة…
 وددت بأن الحب يجمع كله                   فيقذف في قلبي وينفلق الصدر
فلا ينقضي مافي فؤادي من الهوى            ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
                                            (من ديوان الصبابة ص 27)
وفي الحديث القدسي الذي تتجلى فيه ذات الباري تعالى حبا مطلقا ومحبة مطلقة يقول تعالى:” أنا عند المنكسرة قلوبهم.”
1)_ ولادات الحب في الأسرة:
في هرم ماسلو الشهير الذي يرتب الحاجات الإنسانية، يأتي الحب في الدرجة الثانية بعد الحاجات الفيزيولوجية، فهي بالترتيب من القاعدة إلى القمة:
-       الحاجة إلى الغذاء والكساء والسكن.
-       الحاجة إلى الإنتماء والحب.
-       الحاجة إلى الإحترام والتقدير.
-       الحاجة إلى تحقيق الذات.
ويتوقف الهرم هنا حيث يتوقف عقل الغرب عند محورية الأنا والذات، أما الفلسفة الشرقية عموما و والديانات السماوية فتضيف مفهوما هو في رأيي الأوج الذي يفسر حركية الإنسان منذ الولادة وهو:” الحاجة إلى تجاوز الذات نحو الإرتباط بالمطلق” ، والتعبير عن هذه الحاجة على رقيها وعلوها يبدأ من سنوات الطفولة الأولى، عندما يطلب الطفل ألعابا لاليستمتع باستهلاكها وتملكها فقط وإنما أيضا ليمنحها حبا ورعاية واهتماما، وليؤنسن اللعبة عندما يدخلها في عالمه، ويتعامل معها ككائن يشعر ويحس ويفرح ويتألم، ثم أنه يحطمها ليكتشفها وفي ممارسته لهذه السادية العلمية يؤكد محدوديتها في إشباع رغبته في التواصل مع المعنى الذي أضفاه عليها، ثم تصبح مجرد كائن مستهلك ، فيبحث عن ما هو أغنى وأعلى في مسار نموه النفسي والفيزيولوجي والروحي والمعنوي.
بعد هذه الملاحظة يمكننا أن نتفهم هذا الترتيب للحاجات على أنه حاجة عقلية وعلمية ، من دون أن نعتبره مفسرا لما يحصل في الواقع وهذه هي معضلة العلم التي لن نجد لها حلا، فالعقل البشري لكي يصنع فهما أوالعلم لكي يتمكن من التفسير، يقوم بعزل الظواهر عن حركية الحياة أي عن الواقع ثم يرتبها بشكل يجعلها قابلة للفهم وقابلة للتداول  في حقول العلم والعمل المختلفة ، وينتج عن ذلك انكشاف جزء من الحقيقة واختفاء أجزاء أخرى، ولهذا السلوك العلمي ثمرة عملية مع خسائر معرفية، يفترض بالعمل أن يعوضها عندما يكتشف جوانب قصور النظرية العلمية عن التفسير..وعلى المجالات الأخرى أن تتصدى لها، ولكن بسبب هيبة العلم وغروره فإن تفسيره يهيمن ويتحول المفهوم العلمي إلى كائن سكوني مرجعي، يفسر وبتفسيره يغير ويغيب الطبيعة الحقيقية للظواهر والأشياء …في حالتنا هنا يواكب ماسلو مراحل نمو الإنسان، فيلاحظ أن الطفل يحتاج أولا إلى الغذاء والكساء والسكن فيجعل من هذه الحاجات قاعدة الهرم، لأن الطفل لم يع بعد شعوره بالانفصال عن أمه، والحاجة في العلم لاتسمى حاجة إذا لم يعرفها الوعي، ولكن الحقيقة هي أن الحب الأمومي الناتج عن وعي الام لأول انفصال بينها وبين وليدها هو الباعث الأساسي لسعيها لتأمين الغذاء والكساء والسكن والدواء والحضن الدافيء لطفلها، فهي بحاجة لممارسة اتصالها بوليدها بعد انفصاله، والحب هو الحبل السري الجديد الذي يقف وراء إدرار الحليب وحسن الرعاية وقد اختفى هذا الحب بالنسبة للوليد لفرط ظهوره وإحاطته به تماما كالرحم.. إذا يبقى الحب هو الحاجة الوجودية الأولى للإنسان في كافة مراحل نموه، كل ما في الأمر أن الوعي عندما ينمو فإنه يكتشف هذه الحاجة ويكشفها من دون أن يكون له دخل في إيجادها، ثم أن الوعي يمارس فيما بعد في مرحلة المراهقة والشباب عملية عكسية فهو يقلل من حب الولد لأمه عندما يصبح الإنفصال  ضرورة وجودية لإبراز شخصيته المستقلة، والمفترض بالأم السوية نفسيا أن تسهل عملية الإنفصال هذه لتبرهن على أن حبها لولدها قد نما معه فتحول من حب هو لها إلى حب هو له ومن أجله، وإذا حالت دون ذلك بسبب الأنانية المفرطة وقوة الشخصية، فإنها ستطيل آلام المخاض في هذه الولادة الثانية التي تتمخض عادة عن ولادة الشخصية المستقلة للولد، وتتجلى آلام المخاض الثاني إما بطفولة متمددة لدى الأولاد المتوسطي الذكاء، أو بمراهقة شديدة التوتر مع الأولاد الأذكياء الذين يتمكنون من اكتشاف ثغرات الأهل، وهنا قد يصل التوق والشوق إلى الانفصال  لدى الأولاد إلى حد العقوق والجحود وإنكار حتى البديهيات فتكون أنانية الأهل قد ساهمت في تضخم مرضي لأنانية الولد بدل أن تساهم في نمو طبيعي ومتوازن لشخصيته.
الحب الأمومي إلى هنا له شكلين:
-       سهولة الإتصال من الولادة إلى البلوغ.
-       وسهولة الانفصال بعد البلوغ.
وهنا تتدخل التربية والمعرفة والثقافة والأديان والتقاليد والأعراف لتؤسس لاتصال جديد مع الأهل، مبني هذه المرة لا على الطبيعة والفطرة فقط وإنما أيضا على الثقافة والمعرفة، ويطلب من الوعي هنا أن يعيد ترتيب العلاقة بشكل يمنع الإفراط في الانفصال(إلى حد العقوق) أو الإفراط في الاتصال إلى حد الاعتماد الكامل على الأهل (تمدد الطفولة). وما أنجزته الطبيعة بسهولة في فترة الطفولة، على الوعي أن  ينجزه بصعوبة في فترة البلوغ والرشد.
ومن هنا ترتسم معالم الحب البشري وأنواعه، فكما تلد الأم أولادها، يلد الحب الأمومي أنواع الحب البشري، وعلينا أن لا نهمل  ” الحب الأبوي” الذي يعتبر حبا قائما على المعايير والصفات، فالأب يمنح عطفه الحقيقي للأولاد الذين يجد فيهم استعدادا لمواجهة تحديات الحياة، وإذا كان شديد الذاتية فإنه يريد من الولد أن يكون تكرارا له أو امتدادا له ولا يتقبل بسهولة أن يكون الولد إضافة عليه، أما إذا كان ضعيف الأبوة فسنجد أنه سيحب من يريحه من الأولاد، والولد الموهوب يعاني مع أب من هذا النوع لأن الولد الموهوب حساس ومتطلب، وإذا كان أبا سويا، فسنجد أنه سيوزع اهتمامه بعدالة بغض النظر عن مشاعره وسيرغب من صميم قلبه أن يضيف الأبناء إليه ما لم يكن فيه، وسيسهل جهد الولد لتكوين شخصيته المستقلة من دون إسراف في التدخل في المرحلة التي يشعر معها أن السيطرة السلطوية البحتة أصبحت ضعيفة الأثر أو تعطي أثرا معاكسا.
وبتعبير آخر إذا كانت الأم “ولادة”  في الحب، فالأب السوي “قابلة” تحرص على أن لا يتضرر الولد في ولاداته المستمرة، وقيام الأبوين بهذا الدور على أكمل وجه سيحدد مصير العلاقات الإنسانية للولد في بقية عمره مع الآخرين.
ولكننا اليوم نواجه تفككا خطيرا للأسرة، يمنع من قيام كل من الأبوين بدوره الفطري والتربوي، وتتجه الثقافة السائدة والمهيمنة إلى إلغاء الأدوار النمطية للأب والأم تارة تحت عناوين تحرير المرأة وتارة تحت عنوان حقوق الطفل، المهم أن الأسرة تتعرض للتشكيك كبنية وكخلية وكعملية، ومع فقدان الأدوار النمطية تتهيأ الأجواء لأنواع من العلاقات المرضية تجتاح المجتمع بطوله وعرضه وعمقه، من دون أن يكون هناك حلول جاهزة لهذه العلاقات المأزومة في مرجعيات الثقافة السائدة.
2_ بين الرجل والمرأة:
   سنبرهن فيما سيأتي على أن الحب السوي بين المرأة والرجل ، إذا تمتع كل منهما بالسواء النفسي هو في الحقيقة مزيج يتكامل فيه الاتصال مع الإنفصال، وأن انهيار الحب ناتج في الحقيقة عن الإفراط أو التفريط في كلا السمتين اللتين تميزان الحب السوي عن الحب المريض أو الحب المرض.
أ_قهر الإنفصال:
هكذا يظهر الحب عند العالم الكبير إريك فروم في كتابه “فن الحب”، الكتاب يبدأ بالحديث عن انفصال آدم وحواء عن الجنة، ثم بانفصال الولد عن أمه التي يراها رمزا لأنهار اللبن والعسل، ويتساءل فروم لماذا العسل مع اللبن؟، ويجيب أن اللبن للغذاء أما العسل فهو النظرة الإيجابية للحياة والسعادة، أو ما يمكن أن نسميه فلسفيا بفرح الوجود، وهكذا يصبح الحب عند فروم بحثا عن اتصال بعد انفصال، والجواب الصحيح عن مشكلة الوجود البشري لو أننا فهمناه بطريقة صحيحة باعتباره اهتماما بحياة الآخرين وشعورا بأننا جزء من كل، وأن نشترك في العمل من أجل سعادة البشرية…
ويضيف أكرم زيدان في كتابه “سيكولوجية المال” ملخصا نظرية فروم… وما كانت الأمراض النفسية والعقلية والسرقة والرشوة والاختلاس والانحراف والجناح والانتحار والدعارة والإدمان وغير ذلك من الأمراض النفسية والاجتماعية إلا لأنها جميعا مظاهر متنوعة لعجز الإنسان عن الحب وعدم القدرة على تحقيق أي نوع من التآزر بين الفرد والآخرين، الذي أدى في نهاية المطاف إلى الإحساس بالقلق والغربة والضياع والعبث..فالحب هو الذي يحررنا من فرديتنا وهوالذي يشبع ما في نفوسنا من حاجة إلى تحطيم الوحدة والانفصال، والحب في صميمه عطاء لا أخذ، وفعل لا انفعال، ولا يملك سوى أن يفيض ويمنح ويهب، لكن عبثا يحاول العاجزون عن الحب أن يحصلوا عليه بأي ثمن، فاعتقدوا أنه سلعة تباع وتشترى وتسرق، فكثيرا ما يحاول العاجزون عن الحب، الفاشلون في إقامة علاقات إيجابية مع الآخرين أن يشترو الحب بالمال، ويبدو ذلك في البغاء والصدقة والتدليل الزائد للأطفال، والعلاقة بين الجنسين، وعلاقة الزوج والزوجة، وحتى في السياسة والانتخابات. أما بائع الحب فهو الذي يعد بالإخلاص وتحمل المسؤوليات كافة مقابل المال، وأما سارق الحب فهو يسرق أشياء لها قيمة رمزية عنده ليعوض فقدانه للحب.انتهى.
أقول: هناك نوع من سرقة الحب، نعرفه في المراهقين، عندما تكثر حركات الشخص أو يكثر من ادعاء الهم استجلابا للاهتمام من شخص آخر واقع في حب آخر أو أخرى، ثم إذا نجحت اللعبة يتركز الاهتمام على هذا السارق للحب حتى تقع الفريسة في المصيدة… والمقصود بالسرقة هنا نقل المشاعر من شخص إلى آخر بالحيلة مع خبث الوسيلة والنية، لا بقصد تبادل المشاعر بل بقصد المنفعة المادية البحتة، الحب المدعى هنا بحد ذاته وسيلة لغاية بحت مادية.
الحب كما بينه فروم “قدرة” فيوجد من هم قادرون على الحب أقوياء منفتحون على التوحد، ويوجد من هم عاجزون، والعاجزون كما بين أكرم زيدان، يعوضون عجزهم بالتعامل مع الحب كسلعة تشترى وتباع وتسرق بالمال… الصورة التي يقدمها إريك فروم أقرب إلى المحبة منها إلى الحب، بمعنى الحب التوحيدي الجامع الذي يصل البشر ببعضهم البعض ويحل مشكلة القلق الوجودي عندهم ويفسر معنى الحياة، وهذا النوع من الحب نخبوي إلى حد بعيد مرتبط بأمثال فروم من الحكماء والعلماء الإنسانيين، وقد خبرناه مع الأنبياء والمصلحين كطاقة جبارة في حنانها، تصل المنفصل وتجمع المتشتت، وتبلسم الجراحات النفسية، هذا المستوى من الحب مرتبط إلى حد بعيد بالوعي العميق وبالقدرة عليه، إنه طاقة دفاقة من الأقوياء بالروح رحمة لبني البشر.
 ولذلك أفضل أن أضع قدمي على الأرض، وأنا أبحث عن شكل من أشكال الحب الواقعي الذي يصلح غذاء لأمراض العصر في علاقات المرأة والرجل بالدرجة الأولى، فقد لا حظنا أن الحب السوي هو الوقاية من التفكك الأسري والعلاج لأمراض التربية وانحرافاتها ومن هنا أقول:  في الحب الواقعي يسير الإتصال مع الإنفصال بشكل تكاملي بدل أن يكون الإتصال ضدا ونقيضا للإنفصال، ما المقصود بهذا المعنى؟. لن يتضح المعنى إلا باستعراض نماذج شائعة من الحب فيها إسراف في الإتصال أو إسراف في الإنفصال:
ب_الحب الاستحواذي:
الحقيقة أن ظاهر هذا الحب شكل مرضي من أشكال التعلق، وغيرة شرسة، ووساوس، ونوع من السلطة تمارس على الحبيب كي لا يبتعد ولا ينشغل ولا يغيب، فإذا غاب رن الهاتف وإذا حضر حوصر بالذراعين، حب يكتم الانفاس ويحول المحبوب إلى شيء مملوك بالكامل، والواقع أن هذا الحب المرض يخفي قلقا عميقا من الإنفصال، وضعفا شديدا للثقة بالنفس، ويؤدي في نهاية المطاف بحسب قوة شخصية المحبوب السجين، إما إلى الهروب والإنعتاق الفعلي أو إلى نوع من الرياء والمداراة على حساب المشاعر الحقيقية، فعندما ينقطع الأوكسجين عن مشاعر المحبوب تختنق هذه المشاعر وتموت وتستبدل بنفور علني أو بطلاق نفسي، وهكذا يتحول التوق المرضي إلى امتلاك الحبيب إلى مأساة. يحدث هذا الامر بشكل درامي عندما يكون أحد الشخصين مازوخيا، لايجد لنفسه وجودا بدون الآخر ويصل أحيانا إلى حد التلذذ بالعذاب الذي يلاقيه من حبيبه، وهذه المازوخية قد تلتقي بنزعة سادية لدى الآخر فنكون أمام مشهد جنوني يرتبط فيه الحب بفن التعذيب إذا تذكرنا أن السادي يتلذذ بتعذيب الآخرين. هذا من الناحية النفسية، ومن الناحية الفكرية لا يعدو هذا الحب أن يكون شكلا من أشكال الخلط المفهومي بين الحب التبادلي والتملك، فالحب التبادلي هو من الأساس ميل واختيار وتكامل وشوق وطلب.. وأيضا حرية يعني أن المحب يشعر بان ذاته تطلب الآخر بدوافع متحررة من القمع والدفع والإكراه، وإذا تحول الحب إلى واجب وفرض فإنه ينتهي حبرا على ورق.
بدأت بالحب الإستحواذي لأخفف من التركيز على الإتصال في تعريف الحب.
ج _ الحب العذري:
ماالذي يمجده الأدب الإنساني في الحب العذري؟، التركيز على عجز المحب عن الوصول إلى حبه، يعني الإنفصال المكاني أو الظرفي الذي يكون سببا في التهابات الشوق وتأجج الحب، ويضيفون إلى صفات الحب العذري البراءة من الرغبة الجنسية، وتتحول الحبيبة إلى لوحة معلقة في قلب المحب لا تشبه بأي حال من الأحوال الحبيبة بلحمها ودمها.
تعبر قصة مروية عن قيس ليلى أو كثير عزة عن ذلك الإنفصال العذب فتقول: أنه وقع يوما مغشيا عليه من شوقه إليها، فرقت لحاله وأتت تعالجه بحنان لكي يستفيق من غشيته ولما أفاق نظر إليها وقال: استغنيت بك عنك. الحبيبة في هذا المشهد مخلوق آخر صنعه الشاعر المحب، لكي يتغنى بجماله ويتعذب من فراقه ويعبرعن شوقه. أما جميل بثينة، فقد حولها إلى سر وجوده وتوأم روحه فكانت بثينة في شعر جميل، مصدر إلهام مستمر طالما أنه لم يرها ولم يلمسها،  يقول جميل:
              تعلق روحي روحها قبل خلقها  وبعدما كنا نطافا وفي المهد
              فزاد كما زدنا و أصبح ناميا   وليس إذا مت بمنصرم العهد
             ولكنه باق على كل حادث      وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
يوجد شبه إجماع بين الناس والباحثين، أن هذا النوع من الإنفصال العذب، ينتهي مع أول اتصال جنسي، وأن الزواج بمعناه المتعارف هو مقتل هذا الحب، والواقع أن الحبيب في الحب العذري هو صورة لذات المحب أكثر مما هو شخص الحبيب الذي أطلق شرارة هذه المشاعر، الحبيبة كانت مجرد مادة لصناعة الصورة، وقماشة رسمت عليها اللوحة، وذلك لأن المرأة التي يريدها أي رجل ليست موجودة في امرأة واحدة، وكذلك الرجل الذي تريده أي إمرأة، وإن كانت المرأة أميل للإخلاص لرجل واحد وأشد تغافلا عن عيوب الحبيب، لأن جهازها الإحساسي أرق، وجرحها من نهايات الحب أعمق، فضلا عن أنها مفطورة على منح الحب. المهم أن الفنان أو الشاعر العذري لا يجد ضالته إلا في المرأة التي تشبع شغفه للحب المطلوب في هذه الحالة لذاته لا لغيره يعني حب من أجل الحب لا من أجل الحبيب، ولذلك يصل بنا التحليل إلى أن الحب العذري على سمعته الحميدة بين الناس لما له من الفضل على الأدب والشعر وترهيف الأحاسيس، هو في الحقيقة نوع من النرجسية والوله بالذات التي ترفض ما تقدمه لها الحياة من علاقات طبيعية واقعية فيها النقص والكمال، وفيها العيب والجمال، وفيها الالم والسعادة.. فتنسج _نفس الشاعر_ من خيالها حبا وتجعل من حبيبها مادة لهذا الحب بصورته المثالية التي لا يشوبها أي نقص، وينتهي بها المطاف تعلقا بالخيال والمثال قد يكدره التعرف على الحبيبة التي تنال.
لقد أثر هذا الحب بما حظي به من ترويج في الأدب والقصص والأساطير والسينما والتلفزيون والمسرح، على الذوق العاطفي للمحبين، وجعل الرجل الذي يطلب الحب يلهث وراء صورة فارس الأحلام، والمرأة تلهث وراء صورة الحورية، أصبحت العلاقة متطلبة أكثر من اللازم مرهونة بطقوس رومانسية لا تكتفي بالوردة بل تبحث عن ألوان الإثارة، واختلط الحب الرومانسي بنزعة الاستهلاك ومستويات الشبق الجنسي بحثا عن صورة مثالية هي في الحقيقة من نسج الخيال.
ولأن هذا الحب بالذات يموت بعد الزواج، شاع أن الزواج نهاية الحب وكأنه النسخة الوحيدة والصيغة الفريدة للحب، فالمخلصون للحب الرومانسي يؤخرون الزواج أو لا يتزوجون أصلا إذا أمكنهم ذلك، والبعض أصبح يصرح بعد الخبرة أن الحياة الجميلة تعاش قبل الزواج فمن الأفضل تأخير هذا الهم، المسألة هنا أوسع من الإخلاص للحب الرومانسي، بل هي خلط عجيب بينه وبين الحب الجنسي والحب الإستهلاكي، ولأن سمعة الحب الرومانسي أفضل، تختبيء أشكال الحب الأخرى خلفه:
              وكل يدعي وصلا بليلى        وليلى لا تقر لهم بذاكا
إلى هنا نصل إلى أن “الحب الواقعي” الذي أعتبره حلا لمشكلات العلاقات بين الرجال والنساء على مافي هذه الكلمة من تناقض ظاهري، فالحب في الأذهان يناقض الواقع ويتمرد عليه، ولكنه في العلم صورة من صوره ومشهد من مشاهده… هذا الحب بالذات لاهو اتصال إلى درجة الإستحواذ ولا انفصال إلى درجة النرجسية الرومانسية ، إنه اتصال مع فسحة من الحرية وانفصال مع جذبة تشد المحب إلى حبيبه طلبا للوصال.
د_الحب الجنسي:
إذا خرجنا من حكايات الحب العذري _حيث لا يمكن مجامعة الصورة المعلقة في الخيال_، وتكمن شرارة الحب في كونها صعبة المنال، فإن لكل حب أساسه الجنسي، حتى قال أحد الظرفاء في”ديوان الصبابة”:” العشق عبارة عن طلب ذلك الفعل المخصوص من شخص مخصوص.”
  ولأن هذا الحب مرتبط بالخلقة قال بعض الفلاسفة أن الحب ماهو إلا حيلة الطبيعة للوصول إلى التناسل، ولكن الحديث هنا يدور حول الجنس كهدف وحيد من أهداف الحب، وغلبة المقاييس الجنسية على ما عداها بشكل يجعل العلاقة برمتها مرهونة لا فقط بنجاح العلاقة الجنسية بل وبموافقتها لذوق المحب في الجنس، ولو كان فيه شيء من الخروج عن المألوف. أشكال الجنوح في هذا النوع من الحب تصل في نهاياتها إلى التعلق بالعاهرات لأنهن أكثر تفرغا لذوق “الزبون”، ومع الوقت يتحول الجنس إلى مخدر وعلاج فاشل للقلق والوحدة والوحشة،  وهنا تظهر حالة إدمان على الجنس للجنس،  المحبوب يختفي من المشهد ويختزل بقضاء الوطر منه. ولأن البيولوجيا دافعة للبسيكولوجيا في هذا الحب، فإنه الأكثر شيوعا اليوم لارتباطه بمسار طبيعي جنح عن سكته فأصبح مصدرا للقلق بدل أن يكون علاجا له… وتحت ظلال هذا الجو المحرض على العلاقة الجنسية خاصة في السينما والتلفزيون وبيئة العمل، ظهر نوع من الحب أسميه تسامحا بالحب الإستهلاكي.
ه_ الحب الإستهلاكي:
اجتمعت عدة عوامل لخلق هذه الظاهرة، منها ما لاعلاقة له بالحب البتة، سأعرضها بالترتيب ليظهر التشابك العجيب في المفهوم والممارسة.
1_ تأخر سن الزواج ودخول المرأة في سوق العمل:
توجد علاقة طبيعية بين مستوى الجهد والحاجة إلى العاطفة بمافيها الشغف الجنسي، والناشطون في المجتمع، غالبا ما يكونوا ناشطين في كل شيء حتى خفقة القلب لديهم أسرع استجابة إلى بوارق الحب عندما تلمع، ومع تأخر سن الزواج لدى الجنسين وأجواء العمل الضاغطة تظهر الحاجة إلى الحب كواحة في صحراء المدينة، وخشبة خلاص تستجيب لأجواء التحريض على الجنس التي أصبحت لغة الفن والإعلان اليومية. وبما أن أجواء العمل وغلاء المعيشة وتقاليد الزواج وثقافة الحب العذري تختلط بالحب الجنسي الذي يخاف من الرتابة والملل وموت المشاعر، لتبعد كلا الجنسين عن خيار الإرتباط الرسمي، نراهم يقدمون على بناء علاقة عابرة مع علم مسبق بأنها لن تتطور إلى زواج إلا إذا حصلت مفاجآت مالية أو غير مالية تجعل من الزواج قدرا محتوما.
2_ التحريض على العلاقة العابرة:
هنا يدخل أرباب سوق السينما والتلفزيون والأنترنت والهواتف النقالة على الخط، فيوفرون بعروضهم المغرية حوافز لإرسال الرسائل وإطالة المكالمات أو التحادث على الشبكة العنكبوتية، وتنتقل العلاقات من مستويات الحب الإفتراضي إلى العلاقة العابرة التي يراقب فيها كل طرف ذاته كي لاينجرف إلى أكثر من الحدود الموضوعة سلفا، ثم تنهار هذه الرقابة الذاتية بعد أن يتحول عالم الرجل والمرأة إلى شاشة هاتف أو شاشة كمبيوتر أو شاشة كاميرا أو شاشة تلفزيون، ومع كل رسالة “حب استهلاكي” يرتفع رصيد وأسهم شركات الإتصالات والأنترنت وتترجم العواطف إلى ثروة يستفيد منها المحرضون دون المحبين.
3_ ثقافة الاستهلاك:
يتباهى الجيل الجديد بأنه سريع الملل، وقد تدرب على الحصول على مايريد بأقل جهد ممكن، ثم أنه يستهلك مايملك بسرعة حتى يواكب الجديد، وقد وصل الأمر بالفعل إلى استهلاك “الحبيب المفترض” واستبداله كأي سلعة انتهت مدتها، فبعد فترة قصيرة من المكالمات الطويلة تنتهي الإثارة المطلوبة ويصبح الكلام مكررا، وهكذا تفتح نافذة أخرى على المسنجر ونشرع ببناء علاقة جديدة ونحن نعلن انتهاء مدة صلاحية العلاقة القديمة.  ضحايا هذا النوع من الحب الإستهلاكي هم تلك الفئة العاطفية البسيطة التي تبني أحلاما وردية على هذه العلاقة ثم تصطدم بالخط المقفل أو العنوان الإلكتروني الذي تبدل، أو البلوك على العنوان المعروف.  المشاعر في هذا النوع من الحب سطحية لا تنفذ أبدا إلى الأعماق، والكلام تافه، والفن هابط، وكل ما كان الحب الحقيقي سببا في وجوده مبعد ومهمل، والجنس والعلاقة العابرة تحكم الموقف وتحدد أنماط السلوك، والهدف: أكبر قدر من اللذة بأسرع وقت ممكن وأقل كلفة ممكنة، معنوية كانت هذه الكلفة أو مادية.
ثقافة الإستهلاك، هي حصيلة حياة محورها اقتصاد بلا قلب، ينتج إنسانا بلا روح، وأدب بلا كلمة، وفن بلا مشاعر، والنتيجة مجتمع عاجز عن الحب مريض بالقلق، مهدد في صحته النفسية بسبب افتقاده للسكينة الداخلية التي تجعل من حياته تراكما إيجابيا على خط النمو الطبيعي للشخصية المتوازنة. ماذا نقول في هذا الحب الممسوخ الذي ينتقل فيه العاشق من وهم اتصال إلى وهم انفصال، ويعيش بعده وفي أثنائه نوعا من الألم المترف الذي لا ينتج تجربة مفيدة إلا لمن يستفيق من عالم الحب الإفتراضي فيطفيء الشاشات ويخرج إلى الحياة.
الحب الحقيقي لا يزال بريا، لم تفلح الحضارة التكنولوجية في تدجينه، وهو منحاز لحرارة الأعصاب والشرايين وخفقة القلب ودفق الدماء، وللوجوه العابقة بالحياء، والعيون الدامعة، والنفوس التي تعتز بأنها ضعيفة.
ولك أن تقول ما قاله عبدالله بن أسباط القيرواني:
            قال الخلي الهوى محال         فقلت لو ذقته عرفته
           فقال هل غير شغل قلب         إن أنت لم ترضه صرفته
          وهل سوى زفرة ودمع           ان لم ترد جريه كففته
         فقلت من بعد كل وصف          لم تعرف الحب إذ وصفته
-       الحب الالهي:
نحن نتحدث هنا عن نبع فياض من الحب، هو سر الكون وأساس الوجود، الاتصال فيه يبقى مواكبا للإنفصال، فلا تستنزف المشاعر أبدا، بل تتدافع في طريق سرمدية وعروج أبدي، يحصل فيه المحب على جوائز حبيبه في كل طرفة عين وومضة عين وخفقة قلب.
العاشقون لله تتسع قلوبهم للعرش والكرسي وللعالم أجمع، فكل مافيه فعل من أفعاله وأثر من آثاره، والأنا لا وجود لها في هذا العالم، بل هي العقبة… “فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة فك رقبة”، وعتق الرقاب يعني التحرر من الأنا الآسرة وشهوة الاستهلاك ورغبات التملك، خزائن الله التي لا تنفذ تودع في قلب المحب فيعطي ولا ينقص بل يزيد، ويذوب ما فيه من مادة ليتحول الى روح وطاقة دفاقة  تمنح العالم أجمع دفقا من الحنان من نبع سماوي، “يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن”.
لا معنى للتدين العميق بدون هذا الجنون بالله والهوس بذكره والشوق للقائه في محراب العبادة أو في ساحات العمل والجهاد.
             قلبي يحدثني بأنك متلفي        روحي فداك عرفت أم لم تعرف
لا معنى للإيمان العميق، إذا لم تشع من قلب المؤمن أنوار التسامح والمحبة، وإذا لم يترجم الإيمان عملا يبلسم جرحا هنا ويسد حاجة هناك، المحبون لله مشغولون بمغازلة حبيبهم بخدمة خلقه، يراقبون صورة ترسم لهم في عالم الملكوت سينكشفون عليها قبل الموت أو بعده. وكما قال السيد المسيح (ع): مجانا أخذتم مجانا تعطون.
وقال علي (ع) في صفات المتقين: لولا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، ومعونتهم للإسلام عظيمة.
أما حفيده الصادق عليه السلام فقد أوجزها بكلمة:
هل الدين الا الحب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق